في سياق أكاديمي ووطني يتسم بكثرة التحديات البيئية والاجتماعية والمجالية، برزت الحاجة الملحة إلى خلق فضاء علمي يجمع بين الرصانة الأكاديمية والانخراط في قضايا التنمية الترابية. ومن رحم هذا السياق، ولدت الأكاديمية المغربية للدراسات الجغرافية والتنمية الترابية (AMEGDT)، كتجسيد حي لإرادة مجموعة من الباحثين المغاربة في المساهمة الفعلية في بلورة مشروع علمي ومجتمعي نوعي. يجمع هذا المقال بين قراءة في النشأة التاريخية للمركز، وشرح لرؤيته المستقبلية، وتحديد لأهدافه وتطلعاته الكبرى.
أولا: النشأة والمسار التحويلي
تعود
البدايات الأولى للأكاديمية المغربية للدراسات الجغرافية والتنمية الترابية إلى
سنة 2017، حين تأسست في صيغتها الأولى تحت اسم "منتدى الجغرافيين الشباب
للبحث والتنمية المستدامة بجهة الشرق"، كإطار شبابي ناشئ داخل شعبة الجغرافيا
بجامعة محمد الأول بمدينة وجدة، وبتعاون مع مختبر دينامية الأوساط الجافة، الإعداد
والتهيئة الجهوية.
جاء
هذا التأسيس في سياق أكاديمي متفاعل، ورغبة ملحة من طرف شباب باحث في إحداث منصة
معرفية تتيح النقاش، البحث، والتكوين حول قضايا الجغرافيا والبيئة والتنمية. وقد
استطاع المنتدى، طيلة ثماني سنوات، أن يراكم تجربة علمية محترمة من خلال تنظيم
ندوات وطنية ودولية، ورشات تكوينية موجهة لطلبة الماستر والدكتوراه، وأيام دراسية
موضوعاتية تناولت قضايا الماء، الهجرة، المخاطر الطبيعية، ونظم المعلومات
الجغرافية.
وفي سنة 2025، وبعد هذه المرحلة التأسيسية الغنية، قررت الهيئة المؤسسة توسيع الأفق التنظيمي والمجالي للمؤسسة، وتحويلها إلى "المركز الجغرافي الأكاديمي للبحث في البيئة والتنمية المستدامة"، وهي التسمية التي تعكس الطموح الجديد في الانفتاح الأكاديمي، وتكريس هوية علمية وطنية ذات إشعاع دولي.
ثانيا: الرؤية العلمية والمؤسساتية
ترتكز رؤية الأكاديمية المغربية للدراسات
الجغرافية والتنمية الترابية على أربعة أبعاد استراتيجية:
1.
البعد
الأكاديمي: جعل البحث الجغرافي والبيئي في صلب اهتمامات
المركز، من خلال إنتاج دراسات وأبحاث عالية الجودة، وتعزيز النشر العلمي الرصين،
ودعم التكوين المستمر في مجالات التحليل المجالي، نظم المعلومات الجغرافية،
والذكاء الاصطناعي.
2.
البعد
المجتمعي: السعي إلى ربط المعرفة بالمجتمع، عبر حملات
تحسيسية ولقاءات مفتوحة، تروم نشر ثقافة الاستدامة، وتوسيع قاعدة الوعي المجالي
والبيئي لدى مختلف شرائح المجتمع.
3.
البعد
التشاركي: تعزيز منطق الانفتاح على باقي الفاعلين، من
جامعات ومختبرات وجمعيات، من أجل بناء شبكات علمية عابرة للتخصصات، تسمح بتكامل
الرؤى وتلاقح التجارب.
4. البعد الاستشرافي: تحويل المركز إلى قطب تفكير في قضايا التنمية والتهيئة، عبر صياغة تقارير استراتيجية، ومذكرات علمية موجّهة إلى صناع القرار.
ثالثا: المحطات الأساسية والأنشطة المنجزة
خلال مساره، نظم المركز عددا كبيرا من الفعاليات
النوعية، نذكر منها:
- ورشات
علمية متخصصة في منهجية البحث الجغرافي، التحليل الإحصائي (SPSS)، الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي،
وبرامج إدارة المراجع مثل Zotero وMendeley.
- ندوات
دولية حول التغيرات المناخية، المخاطر الهيدرومناخية، التهيئة الترابية،
والهجرة البيئية.
- حملات
تحسيسية موجهة للعموم حول قضايا الصبيب الإيكولوجي، التصحر، والحفاظ على
التنوع البيولوجي.
- دورات تكوينية في الفوتوغرامتري، النمذجة الهيدرولوجية باستخدام MNT، وبناء الهوية الأكاديمية على المنصات العلمية الدولية.
رابعا: التطلعات المستقبلية
لا تقف الأكاديمية عند حدود ما تم إنجازه، بل
تسطر لنفسها طموحات كبرى، تتجلى في:
- إحداث
مجلة علمية محكمة تحمل رؤية الأكاديمية وتنفتح على باحثين من داخل المغرب
وخارجه.
- إنشاء
مركز دائم للدراسات الميدانية في قضايا البيئة والتنمية.
- التموقع
ضمن الشبكات العلمية الدولية، من خلال شراكات مع جامعات ومراكز بحث مغاربية
وإفريقية وأوروبية.
- بلورة
أدوات معرفية عملية (خرائط، قواعد بيانات، مؤشرات) تخدم صناع القرار
والباحثين معا.
- تفعيل الدبلوماسية العلمية وتمثيل البحث المغربي في المحافل البيئية والتنموية العالمية.
خامسا: التميز في تكوين الطلبة والباحثين
تولي
الأكاديمية المغربية للدراسات الجغرافية والتنمية الترابية أهمية خاصة لتأطير
الطلبة والباحثين الشباب، باعتبارهم الفاعلين المستقبليين في الحقل العلمي
والمجالي. ولذلك، تعتمد الأكاديمية على منهجية تكوينية مزدوجة تقوم على:
- التكوين
النظري الدقيق في المفاهيم والمناهج؛
- والتدريب
العملي من خلال ورشات ميدانية، استعمال البرمجيات المتقدمة، وتعلم تقنيات
الاستشعار عن بعد وتحليل المعطيات الجغرافية.
كما تنفتح الأكاديمية على كل الطلبة من مختلف الجامعات المغربية، ساعية إلى بناء جسر متين بين التكوين الجامعي والتأطير المدني التطوعي في مجال البحث الجغرافي والتنموي.
سادسا: دينامية الفريق وتنوع خلفياته
من أهم نقاط قوة الأكاديمية تكوين مكتبها المسير من باحثين من مختلف التخصصات الجغرافية (الطبيعية، البشرية، الاقتصادية، البيئية، الجيوماتية)، ومن فئات عمرية متعددة (أساتذة تعليم عالٍ، مؤهلين، محاضرين، طلبة دكتوراه وماستر). هذا التنوع العلمي والبشري يعزز من غنى النقاش داخل الأكاديمية، ويضمن تعددية في المقاربات والقراءات للظواهر المجالية والبيئية.
سابعا: المبادئ التي تحكم عمل الأكاديمية
ترتكز الأكاديمية في أدبياتها العامة وخطها
المؤسساتي على عدد من المبادئ المركزية، منها:
- النزاهة
العلمية والصرامة المنهجية؛
- الانفتاح
على المجتمع واستيعاب مختلف الحساسيات العلمية والفكرية؛
- اعتماد
الحياد الأكاديمي في التفاعل مع القضايا المجالية؛
- تشجيع
ثقافة النقد البناء والتفكير الحر داخل الفضاء الأكاديمي؛
- الالتزام بالاستدامة كمنظور شمولي يعبر كل مجالات العمل.
ثامنا: موقع الأكاديمية في المشهد العلمي الوطني
رغم حداثة تأسيسها، فرضت الأكاديمية حضورا ملحوظا
داخل الحقل البحثي الوطني، وذلك من خلال:
- مشاركتها
المنتظمة في الندوات واللقاءات العلمية الوطنية والدولية؛
- تنظيم
فعاليات بشراكة مع مختبرات ومؤسسات جامعية مرموقة؛
- مساهمتها
في النقاش العمومي العلمي عبر تقارير ومذكرات وبيانات تحليلية؛
- انفتاحها على الإعلام العلمي والتقني من خلال إنتاج محتوى رقمي تفاعلي.
تاسعا: مشاريع مستقبلية قيد الإنجاز
تعمل الأكاديمية حاليا على بلورة
مجموعة من المشاريع التي من شأنها أن تعزز تموقعها المؤسسي والعلمي، ومنها:
- إطلاق
منصة إلكترونية مفتوحة للخرائط والبيانات الجغرافية؛
- إعداد
أطلس مجالي لجهة الشرق المغربية؛
- تصميم
وحدة تكوين عن بعد في نظم المعلومات الجغرافية موجهة للطلبة والمهنيين؛
- إعداد
دليل ميداني للجغرافيين الشباب حول أخلاقيات البحث المجالي.
إن
الأكاديمية المغربية للدراسات الجغرافية والتنمية الترابية ليست مجرد تجربة
مؤسساتية عابرة، بل هي مشروع معرفي طويل النفس، يتطلع إلى الإسهام الفعلي في بناء
مغرب يتأسس على العدالة المجالية والاستدامة البيئية والعلم الرصين. وبين حيوية
الشباب وخبرة الأساتذة، وبين التكوين النظري والعمل الميداني، تواصل الأكاديمية شق
طريقها نحو موقع ريادي داخل الحقل الجغرافي المغربي والعربي، مؤكدة أن البحث
العلمي حين يؤطر بقيم الالتزام والانفتاح، يكون فاعلا ومؤثرا.